•  

    1-   هذا الجدل يحيلنا بشكل او بآخر إلى العلاقة التي تتعدد حولها الاجتهادات بين العلوم الانسانية ودراسة الظاهرة الدينية في مختلف تمظهراتها خاصة وأن البعض يحاول من خلال الاشارة الى ما يرتبط  بهذه الظاهرة من قداسة وضع قيود على تعاطي العلوم الانسانية مع الظاهرة الدينية فما هو رأي الاستاذة آمنة الجبلاوي؟

    ما سيرد في جوابنا هو محاولة لرصد الأسباب وفهم الظّاهرة ولا علاقة للجواب بمشاعر الناس ومعتقداتهم وعاداتهم الثقافية والاجتماعية. ولا يشك عاقل في أن تحليل المسائل لا يمس من الاحترام المرصود للشأن العقديّ. وما يحاول البعض الإيهام بأن العلوم الإنسانية والمعارف الحديثة لا يمكن أن تطبق على بعض الخصوصيات الثقافية، فالأخذ بسبل العلوم من الآخرين وتطويعها والاستفادة من مكاسبها المنهجية لا يمس من القناعات بل قد يثبتها ويجعلها أكثر قربا من الذهنيات الحديثة.

    وإن كنتم ترومون من خلال السؤال التلويح الى التّعارض الذي يحاول البعض تصوره بين العلوم الشرعية  والعلوم الحديثة فإننا متأكدون من أنّ المنظومتين مختلفتين وأنهما في نفس الوقت لا تتعارضان بل في رأيي تكملان بعضهما البعض. والواحدة منهما هي قطعا في حاجة الى الأخرى، فعوض ان نحاسب البعض على النوايا ليهتم كل بتحصيل علومه والارتقاء ببحوثه والسعي إلى الرد على الآخرين بالحجّة التي تقارع الحجة. أما ردود الفعل المتوتّرة  فلا تتقدم بمستوى الحوار المدني والأكاديمي وهي تسيء الى اصحابها اكثر مما تخدم رغباتهم وتعبر عن تهافت وضعف في ادوات الرد وبراهينه، طبعا الحديث يهم حالات فردية لا شان يُذكر لها -وهي فردية لا تعبر عن المجموعات أو المؤسسات- وفي المقابل هناك ثلة من الباحثين والكتاب الواعدين الذي يُتوقع منه الكثير رغم اختلافهم في بعض المنطلقات أو بعض أدوات البحث ولكن يجمعنا الشغف بالفكرة واحترام الكلمة الصادقة ونحن نعي اختلافنا لكننا نحترم بعضنا ولعل التجربة التونسية الرائدة هي التي ينتظر منها الجديد ويقر كثير من الاصدقاء بان الإضافة ستكون من ربوعنا واعترف أنها فرضية تثير الفخر وتحفز على الاجتهاد.

    1-   شمل اهتمامك الأقليات العرقية والمذهبية وهو ما يدفعني الى أن اسالك عن سبل تطوير التعاطي مع الاقليات منهجيا وعلميا وايضا سياسيا في ظل ما يرتبط احيانا في الحس العام سياسيا أحيانا من خلط بين الاقليات والادوار السياسية التي تؤثر على تماسك المجتمعات؟

    في حقيقة الأمر لا بد لنا أن نقر مثل الكثيرين بتحقق نبوّة أندري مالرو André Malraux عن القرن الواحد والعشرين إذ قال أنّه سيكون قرنا يشهد عودة الدّيني في كل العالم. وفي إطار هذه العودة طرحت مسائل عديدة في علاقة بتعايش ما يسمى أعراقا أو مذاهب مختلفة في ظل مجتمع واحد.

    ويتنزل الاهتمام بالأقليات العرقية وخاصة المذهبية في إطار بحث أكاديمي موضوعي متجرد، يهدف إلى فهم الظاهرة وتقديم المسألة من خلال مساءلة النصوص التراثية. والعمل هو بحث في تمثّل هذه النصوص للأقليات أو ما كان يسمى "مللا ونحلا" أي في الصور التي تنسج عن هذا الآخر الضعيف عددا ووزنا والمستضعف أحيانا.

    اشتغالنا على المسألة يركز كل الاهتمام على مسألة المخيال والصور النمطية التي قد تحدد التصورات العامة لهذه الأقلية او تلك، وقد يذهب البحث الى بيان الاختلاف الفعلي بتقديم الدليل العلمي على الفرق بين التمثلات وواقع الحال. ومعرفة واقع الحال هو مطلب معرفي.

     

     لكن هذه المعرفة بالماضي قد تساعد المهتمين في الحاضر بالمسألة على إيجاد مادة علمية يمكن ان يستفيد منها لضمان الاحترام وان يؤسس لمعرفة تقود نحو الاطمئنان للآخر وتضمن بذلك نوعا من السلم الاجتماعي في المجتمعات التي تتعدد فيها الطوائف او الاعراق من قبيل المجتمعات العراقية واللبنانية أو الهندية الخ.

    وفي بعض الانتكاسات والخسارات عرفت بعض المجتمعات العربية الاسلامية موجة من الإقصاء والتشريد الذي تعرضت له اقليات كان لبعضها تواجد قرب النيل والفرات منذ 1500ق م ونذكر من الاقليات التي تعرضت لملاحقة بعض الميليشيات الصابئة والايزيدية والكلدواشوريين. ومن الضروري في هذه المواضع ان يساهم البحث الرصين في التذكير بانفتاح المجتمعات الاسلامية على غير المسلمين في فترات طويلة من تاريخها.

    طبعا بعض الجهات تسعى ربما الى استغلال قضية الاقليات لضرب وحدة المجتمعات، لكن في هذا الموضوع يجب الفصل بين الحقوق المشروعة والتي جاءت في العهود والمواثيق الدولية التي تضمن تمتعهم بمبادئ عدم التمييز على اساس العرق او الدين وبين من يستعملون قضية عادلة لغايات سياسية. كذلك لا بد من التمييز بين البحث العلمي الموضوعي ومتاهات اللعبة السياسية، فمهمة الباحث هي شرح المسائل والتعمق في لطائف الامور.

    وأحد غايات البحث هي المساهمة في رفع اللبس حول معرفتنا بالاقليات وفي الفصل بين المعرفي والايديولوجي، هناك اقليات تفوق وطنيتها وطنية بعض افراد ينتمون الى الأغلبية، وهي اقليات برهنت عن اهتمامها وولائها لوحدة المجتمع الذي تنتمي اليه.

    وكل ما في الامر ان احترام الاقلية هو صنو لاحترام الاغلبية وان مراعاة حقوق الاقليات يعبر عن اجواء تحس فيها الاغلبية بالامن الاجتماعي خاصة.

    اعتقد ان الازمات الاقتصادية والمآزق الثقافية تعود بالوابل على الاغلبية التي تنكفئ على نفسها وترى ان الحلول تكمن في معاقبة هذا الاخر واستضعافه او اقصائه أو طرده ويكفي ان نشير إلى تعامل البعض في الاتحاد الأوروبي مع مسألة الغجر.

    6-هناك جدل محتدم حول الحجاب وما تفرع عنه من تنويعات كالنّقاب والبرقع فماهي الأسباب التي تؤدّي حسب رأيك الى عودة هذه الأنماط من الّلباس؟

    الإطار العام

    تكمن مهمة الباحث خلافا لما يقوم عليه المنطق السجالي، في التحليل المحايد لموضوع الدرس وتنسيب الرؤى التّي تروم التعميم والتي تمثل المسائل على أنها إما أسود أو أبيض لا درجة لونية بينهما. وقد قيل الكثير في هذا الموضوع وسنحاول ألا نعيد كلاما تكرر بل أن نضيف شيئا من التساؤلات والملاحظات لا غير.

    في البدء لا بد من تنزيل المسألة في إطار عام يهمّ كلا الجنسين ذكورا وإناثا ويتمثل في عودة الشّعور الديني. ولا بد من تنزيلها في سياق عالمي فالجدل حول الحجاب يظهر مؤخرا بين الحين والحين في أوروبا خاصة حيث بدأت الاقليات الإسلامية منذ أكثر من عقد تستفيد من مناخ الحريات وتطرح إشكالية حرية المعتقد وطرائق ممارسته في الديمقراطيات الغربية.

    ولا بد من تنزيل المسألة في إطار الحاجة إلى حسم التساؤلات حول من نحن ومن نريد أن نكون، فقد وصلت الديانة الإسلامية الى قرنها الخامس عشر وهذه الحركيّة التي تشهد اليوم تعبر عن تغيير ضروري وإصلاح بات وشيكا وملحّا. وما بعض التعبيرات المتشنجة إلاّ ترجمة لمخاض سائر نحو ما عرفته ديانات أخرى من مراجعات وإصلاحات سمحت لها بالاستمرار في التاريخ؟

    ولكن في ما يعلق باللباس تحديدا؟

    أنماط اللّباس التي تتحدثون عنها هي أحد مظاهر هذه الحاجة التي أصبحت منتشرة في العالم الإسلامي،  إلى حسم التساؤلات حول من نحن ومن نريد أن نكون، وفي غياب المعارف والتنمية والعلم وفي غياب مشاريع حضارية واضحة وحقيقية لا تختزل وجود الجموع في بعد واحد قد يستحيل هوسا خانقا. في غياب آفاق ثقافية وتكنولوجية واستراتيجية تطرح ما يليق بالعالم الإسلامي من تموقع ضمن التوازنات العالمية الجديدة، يكون الجواب عبر التشبث الحرفي ببعض الرموز الظاهرية وعبر التمسك بشكليات الطقوس أي عبر الميل إلى ما يعبر عن الانكفاء على الذات.

    نحن نقول: لعل عدو الرجل والمرأة وعدو الدين هو الجهل الذي يتجلى من خلال بعض السياسات الغربية الخارجية التي تنم عن تقصير في تنمية المعرفة بالعالم والتاريخ الاسلاميين ومن خلال تأويلات السلفية السياسية الدينية التي تذهب احيانا الى تأويلات تعبر عن غياب لمعرفة مقاصد الرسالة. وأنماط اللباس التي توافق مناطق جغرافية وثقافية محدّدة من قبيل البرقع والنّقاب هي نتيجة وليست سببا، وإن أردنا فهم مجريات الأمور يجب معالجة فهمنا لاسباب هذه الأنماط من التأويل.

    ما هو الرهان إذا؟

    والمسألة مركبة ومعقدة فإن كان من البديهي أن تحترم الاختيارات الفردية، فإنه كثيرا ما تستغل الجهات التّي تسعى الى تسييس المسألة انتشار مظاهر التدين الخارجية للترهيب وللإيهام بأنها أصبحت تحظى بقواعد شعبية.

     وعلى الباحث الصادق ألا يحكم على هذا التدين الذي يبقى مسألة فردية قبل كل شيء، تحترم فيها حريات الافراد الشخصية بشرط الا تضرب مبادئ الجمهورية أوقوانين الاحوال الشخصية وألا تضرب الأعراف السائدة.

    هل يمكن حصر الأسباب الرئيسة الكامنة وراء الظاهرة؟

     لا يمكن حصر الاسباب في هذا الحيز البسيط ولا يمكن حصرها في كلمات فالمسألة معقدة شيئا ما وسنحاول المشاركة بالإجابة على هذا السؤال العويص دون الادعاء أننا أمسكنا كل معطيات الإشكالية:

    غياب مشاريع حضارية واضحة في المنطقة العربية الإسلامية

    و يبقى الحجاب جوابا على غياب الجواب في مسألة الهوية ونتيجة لعولمة لم تستثمر في الارتقاء بالمستوى الثقافي للجموع:

    وإن أخذنا مثال البلاد المصرية وهي مقياس مركزي (شئنا أم أبينا) لحرارة العالم العربي، فإننا نلحظ عدم حسم في مسألة هوية الدولة الوطنية المستقلة، ينضاف إليها تراجع الطروحات الماركسية والقومية والاشتراكية. فالعولمة ساهمت في بلورة شخصيات ضعيفة لدى بعض الشباب، شخصيات تستمد وجودها انطلاقا من ظاهرة المحاكاة، طالما انها لا تجد مبادئ قوية تؤمن بها فبعد انكفاء فكرة القومية وفكرة الاشتراكية لم يبق لها بدائل مقنعة ومحفّزة وقوية تتشبث بها. أما فكرة الديمقراطية فهي تشق طريقها في مصر لكنها تعاني من أزمات التنمية وأزمات الاقتصاد العالمي وتحتاج الى توطيد الإدارة الرشيدة.

    وفي غياب هوية واضحة يرتكز عليها الشباب المصري، هوية من شأنها ان تعبّر عن حاجياتهم وأن تسد آمال هذه الاجيال المتعطّشة إلى معرفة الوجهة التّي يجب اتخاذها. وفي غياب عديد المحدّدات تكون أشكال التدين الشعبي أحد ردود الفعل الطبيعية.

    هناك إذا وعي جديد بضرورة التمسك بأي معطى ثقافي ذي معنى وفي غياب أفكار جديدة وبدائل مقنعة وحاملة لقوة جذب شعبية جاءت فكرة العودة الى اشكال التدين المادي لتعبر عن ذعر الجموع وضياعها. ويبقى الحل طبعا في العمل وفي الابتكار لكن في اجواء لا يحس فيها الفرد بالاعتزاز والنخوة بمن هو، يجب قبل كل شيء إعادة بناء هذه الشخصية ومقوماتها.

     

    وتنضاف إلى ذلك الحاجة الملحة لتنظيم ما يبث وما ينشر على نطاق شعبي واسع في بعض الفضائيات من أحكام ومعلومات قد لا تصدر عن مرجعيات دينية لها الأهلية العلمية والقدرة على الحسم والفصل بين الغث والسمين. فنشهد أحيانا في نفس القضية خصومات وتأويلات تذهب الى حد التناقض فيدخل البعض في مزايدات لا نهاية لها، يكتسي فيها غالبا مبدأ التعسير لون الجدية ويدخل المشاهد في دهاليز لا مخرج منها.

    وهم الفجوة الجديدة بين الإسلام والحداثة

    ومن الاسباب التي تقبع وراء الحل الديني، اهتزاز صورة الحداثة وأؤكّد هنا على كلمة صورة فنحن لسنا بصدد الحديث عن الحداثة بماهي مبدأ ومطلب ، بل بعلاقة الجموع بها، فإن لم يُتح لهذه الجموع تعلم لغات غربية أو الاحتكاك الفعلي بهذا الآخر عبر السفر واللقاءات البشرية المثرية فإنّها ستنشأ على عدم معرفة هذا الآخر وهو أقصر طريق لبناء الصور النمطية والكراهية في علاقتنا بالآخر.

    وإذا واصلنا التفكير في الفجوة التي نشأت مؤخرا بين الجموع الإسلامية وبين قيم الحداثة فإن من أسبابها: تقلص البرامج الغربية وتحديدا الأوروبية والمتوسطية المرصودة لتصدير ثقافاتها وهو نتيجة طبيعية لانتهاء الحقبة السوفياتية والاشتراكية، وظهور عولمة لم تستثمر في الثقافة بدعوى أنها لا تخضع لمنطق التجارة المربحة. ولم يفكر أقطاب النظام العالمي الجديد في السّلم الثقافي بين البلدان الذّي هو أحد مقومات السلم الاجتماعي والازدهار الاقتصادي.

    ومن أسباب الفجوة إغلاق الحدود والتضييق على الرّاغبين في عبور الحدود من جنوب المتوسط الى شماله ومن العالم الإسلامي إلى العالمين الأوروبي والأمريكي منذ 2001.

    ماذا بقي إذا للمسلم البسيط وللمسلمة البسيطة سوى الانكفاء على النفس ومحاولة التّشبث بأية قيمة لا تزال تتمتع بشيء من التماسك، وماذا بقي سوى قارب النجاة الأخروي الديني بعد سلسلة من الانتكاسات والخسارات.

    المحدد الاقتصادي

    وهناك اسباب أخرى عديدة أهمها المعطى الاقتصادي، الذي يبقي في رأيي المتواضع مربط الفرس، فماهو موقع العالم الاسلامي اليوم في العالم؟

     فالقوة الوحيدة التّي يمثلها هي قوة العدد، عدد الشعوب المستهلكة أو بعض الشعوب المنتجة للثروات الطبيعية. رغم أنه لا بد من الإقرار بأن هناك بلدان إسلامية مصنعة ومنتجة للتكنولوجيا مثل أندونيسيا والباكستان وايران وتركيا. ومن الاعتراف بأن العالم العربي لم يصل &#


    1 commentaire
  • لتطمئنّ نفسي

      

     

    "يرى أركون في عمله تاريخية الفكر العربيّ([1]) أننا في حاجة إلى الاطلاع على الأعمال الاستشراقية، لفتح مساحة للتفكير الحرّ في المسألة الدينية، حتّى يقع استبدال مناخ »اللاّثقة« السائد بحوار علمي إيجابي."

     

     

     

    اشكر مجلة حقائق على فرصة المشاركة في تطارح بعض المسائل وتقديم بعض الاجابات التي تبقى قابلة للتطوير والتعديل والتي تعي حدود ما قد يصل اليه جهد الفرد الذي يحاول وسعه المساهمة في اثراء الحوار عبر أجوبة هي اساسا تساؤلات ومحاولة لتقديم نتاج تراكمات يعود الفضل فيها الى ما حصل بفضل ما سمحت به تجربة بحث ودرس مازالت في مسار البدء.

    1-   لديك اهتمام بالاستشراق الانجلوسكسوني فما هي الإضافة التي تقدمها هذه المدرسة الاستشراقية؟

    يقودنا السؤال إلى النّظر في دواعي اهتمامنا بهذه المدرسة وهما على الأقل سببان الأول هو الرغبة والحاجة إلى إثراء مكتبة البحوث بالنظر فيما  ينشر في الجامعات الانجلوسكسونية وخاصة في الأقسام التي تهتم بتدريس اللغة العربية وتلك التي تعنى بدراسة الشرق الأدنى (Departments of Near Eastern Studies) ، والثاني هو ضرورة الاهتمام بنظرة هذا الآخر الذي يتحكم في مصائرنا فهذه الأبحاث والقائمون بها يشتغلون أيضا في المراكز البث الاستراتيجية التي تخطط لسياسات الشرق الأوسط ومنهم من يستشار في الكونغرس، لذلك كان لزاما علينا أن نفهم تمثلات هؤلاء عن الثقافة العربية الإسلامية.

     ولا بد من الاشارة الى وجود أكثر من تيّار انجلوسكسوني في حقيقة الامر فإن كانت تجمعهم ثقافة ولغة واحدة، فإنه لا مناص من الحديث عن مدارس مختلفة المشارب. أما المدرسة التي اخترنا الاشتغال عليها فلها خصوصيات وقد اخترنا مايكل كوك وباتريسيا كرون[2].

    وسأستفيد في جوابي حول إضافات هذه المدرسة، ببعض ما ورد في كتابي الإسلام المبكر الاستشراق الانجلوسكسوني الجديد[3]. " لعل مزيّة الباحثين في هذا التحرّر من قيود السائد، هي الجهر بما سكت عنه مستشرقون سابقون. وقد عمل الباحثان بشكل مكثف على مجموعة من المصادر غير الإسلامية* أو المصادر الخارجية المعاصرة لزمن النشأة والتي تمثل شهادة وقع في رأيهما إقصاؤها إلى يومنا هذا، والمقصود بالخارجية أنها دوّنت خارج دائرة المنظومة الثقافية الإسلامية. كما أنهما سيحاولان تنزيل الإسلام "المبكر" في محيط الحضارات القديمة وفي الفترة الموافقة لأفول هذه الحضارات. "

    "وقد أعلن الكاتبان أنهما اعتمدا مقاربة جديدة تختلف عن سابقاتها من حيث تحررهما من القيود التقليدية واستقلالهما عن التقاليد السائدة في حقل الإسلاميات. واعترفت كرون أنها حاولت بمعية مايكل كوك أن تضع بشيء من "التهوّر والطّيش" أسس طرح فكري متناسق في حقل لا تزال أغلب معارفه في حاجة إلى حفريات عميقة. فقد أرادا أن يؤكّدا لذلك القارئ الذي فقد إيمانه ولم يفقد اعتزازه بجذوره الإسلامية، أن لغتهما التقييمية في تحليل الفترة التكوينية للحضارة الإسلامية، لا ترنو إلى إضافة أحكام تبسيطية ضدها أو لصالحها." " وأهم مقومات هذه المقاربة هي نزوعها إلى نقد النّصوص والمصادر الإسلامية. وهي مقاربة مستوحاة من النقد "الليبرالي" للعهدين القديم والجديد[4]. وكان غولدزيهر وشاخت وفلهاوزن أبرز من قام بتطبيق هذا المنهج النقدي في الاستشراق الكلاسيكي".

     

    و نجد هذه الرؤى في الواقع عند هنتينغتون وفوكوياما وعند المحافظين الجدد الذين عادوا بقوة مؤخرا، ولم تتطور طروحاتهم كثيرا عن نظريات الصّدام والعنف: إذ "يرى المؤلفان أنه يمكن تفسير انتشار الإسلام بنشأة حركة الفتوحات ولكن النجاة التي وقع إجهاضها في الإسلام "الأرثوذكسي" السنّي، يمكن أن تتواصل في "مهدية" الشيعة. وفي المناطق الحدودية النائية والقصيّة ويمكن للحضارة التي قمعتها السنّة أن تتواصل في الشيعة والصوفيّة. إن الدولة الإسلامية ليست ممثلة بشكل جيد في الواقع الحالي الهمجي للدول الإسلاميّة ولكنّها تسجّل حضورها بشكل متقطّع في التّصادم مع غير المسلمين أو"الكفار".

    " إنّ نصوص القرن الثّامن وبشكل أخصّ نصوص أواسط القرن الثامن اليهودية والمسيحية أوالإسلامية، تنتمي إلى نفس الأفق الفكري وإلى نفس التصوّرات المعرفية والأساليب اللغوية أوحسب العبارة الفوكولتية إلى نفس »الابستيمية«. لقد اتّهم الباحثان النصوص العربية بعدم الموثوقية وبكثرة النحل انطلاقا من دافع بناء الدولة الإسلامية ومن انتماء واضعي هذه النصوص إلى "نخبة" متواطئة مع سلطة سنية حاكمة ومن حاجة العلماء إلى تقديم صورة مثالية ومتماسكة عن الدين الذي رفع شأنهم"

    إذا أردنا أن نلخص إضافات الاستشراق عموما وإضافات هذا التيار خصوصا فإن الاستشراق قدم لنا خدمات جليلة من حيث تقديمه واستعماله لمناهج وادوات درس جديدة لتراث نصي تمّ تركه لأكثر من خمسة قرون. بالإضافة إلى الأدوات المنهجية، ساهمت هذه المدرسة في تحقيق كم لا يستهان به من المدونة التراثية، وقد أجادت انتقاء النصوص وأحسنت في كثير الاحيان تقديمها والتعليق عليها.

    أما هذا التيار فقد أضاف على علاته بعض التساؤلات. وقد توجه اهتمامي في كتاب الاسلام المبكر الى تقديم اطروحاتهم وتمثلاتهم للإسلام في فترة النشأة في مرحلة اولى، ثم إلى تفكيك الهنات العلمية في ما نطقوا به وما سكتوا عنه. هذه التساؤلات تهم ضرورة نقد بعض المصادر التي يسمونها مصادر داخلية Internal Sources أي مصادر منتمية الى المنظومة الاسلامية وحاملة لرهاناتها. إذا نبهنا الباحثان الى ضرورة تنزيل الشهادة الاموية داخل اطارها والشهادة التي كتبت في ظل الحكم العباسي في اطار العداوة مع الخلفاء الامويين، الى غير ذلك من الاعتبارات. كما نبهانا الى ضرورة التعاطي مع النصوص باعتبار أنها شهادات دونت بعد 150 سنة من الدعوة أي بعد حوالى خمسة أجيال من المرحلة الأولى مما ينبهنا إلى أن هذه النصوص ليست بالموثوقية الآنية التي اعتقدنا لفترة طويلة.

     

    2-   لماذا لم تتخلص هذه المدرسة حسب رايك من بعض مضمرات ومسلمات الدراسات الاستشراقية ؟

    طبعا، لهذه المدرسة هنات كثيرة، فهذه الطروحات الناقدة للإسلام السني لا تحسن التمييز بين المالكية والوهابية فتلتقي بذلك مع تمثلات بعض صقور المحافظين الجدد الذين ينزعون إلى اختزال الاسلام في تعريف تبسيطي. فهم يعتقدون في وجود إسلام معولم يحمل نفس السمات من افغانستان إلى موريتانيا بينما يبدو الواقع شديد الثراء والتنوع بالقياس الى هذه الصور النمطية التي تذهب الى الاعتقاد في وجود إسلام شامل A global Islam. هذا إذا خطاب ينطلق من منطق شمولي ينزع الى التعميم وينأى عن التّحليل فيقارب المسألة كما لو كان الإسلام حزمة من الخصائصviewing islam as a package  التّي تتكون من نفس المعطيات والحال أنّ التأويلات عديدة وحمّالة أوجه وأن الرّؤى متعددة وأن الاختلاف رحمة في غالب الأحيان.  

    يتّسم عمل الباحثين بخطاب تاريخي يكتسي شيئا من الضّراوة والعدوانية تجاة تاريخ الإسلام، ولعلنا نفهم اسباب الضراوة إذا ما عرفنا أن استاذهم هو المؤرخ برنارد لويس. ويبدو أن الباحثين يواصلان هنا تقليدا استشراقيا يتمثل في الاهتمام بالنصوص السامية القديمة. وللأسف فإننا لم نستطع في هذا المستوى من عملنا الإطلاع على جلّ المصادر غير الإسلامية ولكننا لاحظنا أن هذه المصادر ماعدا نص القصيدة التي تعود حسب المؤلفين إلى 634م والتي لم تنشر بعد عند طبع مُؤَلفهما ولم نجد لها أثرا في كل المكتبات التي ارتدنا أو عند بحثنا عبر "الأنترنيت"، تعود إلى فترة ما بعد الفتوحات مما يجعلها مندرجة ضمن الأدب السجالي الديني الذّي دار بين رجال الدين من مسيحيين ويهود إثر انتشار الإسلام وهو ما يدعونا إلى توخّي الحذر في التعامل معها لأنها تتعامل مع الحدث الديني الإسلامي تعامل المَغزُوِ الذي يجب أن يدافع عن وجوده.

    إنّ هذه النصوص تمثل مصادر مهمّة ومثرية لكننا نحترز من الموقف القائل بأنها أكثر موثوقية من النصوص العربية، وإنها قادرة على إخبارنا عن الفكر "التيولوجي" للقرن السابع وهو ما لا يتسنى للنصوص العربية التي يعود معظمها إلى أواسط القرن الثامن. هل تفطن الباحثان إلى هذا الخطأ المنهجي؟ وهل تراجعا عن تفضيلهما لهذه النصوص؟

    إنها في رأينا " نصوص تكتسي نفس القيمة التاريخية التي تكتسيها النصوص العربية من حيث قدرتها على إخبارنا عن ظروف تشكل الدين الإسلامي في فتراته الأولى. وقد تكون أقل قيمة من النصوص العربية في بعض الأحيان على الأقل فيما يتعلق بالنصوص الأرمنية واليونانية التي فضلها الباحثان على النصوص العربية في حين أنها نصوص بعيدة عن المحيط الجغرافي الإسلامي الأول. فالمعلومات التي نجدها فيها تكاد تكون بضعة أخبار متفرقة عن حدوث شيء مثير بجزيرة العرب لا غير. إذ أن طبيعة جغرافية الجزيرة العربية منعت وجود اتصالات كبيرة بين الشعوب الأرمنية واليونانية والقبائل العربيّة في بداية الدعوة."

    إذا هناك في عمل هذا التيار الانجلوسكسوني تهافت منهجي وتهافت لخطاب[5] يلبس لبوس العلم ويحمل سمات الخصومة والسجال.

    ونصل بذلك عند رواد هذا التيار، إلى ما ذكرنا به أستاذ الإسلاميات نورمان دانييل في كتابه الإسلام والغرب أي إلى "خطاب يرتد الى مستوى الجدل القروسطي من كلا الطرفين، أي من جهة بعض المتكلمين باسم الدين السلامي وكذلك مما يرد عن بعض المتحدثين ضده".

    3-   هناك من الباحثين العرب من يعتبر انه لا بد من تاسيس علم الاستغراب في مواجهة الاستشراق كيف تنظرين الى هذا الرّأي؟

    إذا ما عدنا الى عمل حسن حنفي مقدمة في علم الاستغراب[6] فإننا سنجده يضع "علم الاستغراب" في مقابل "الاستشراق". ثم يحدثنا عن "تكوين الوعي الاوروبي بما هو إثبات لتاريخيته لأنه ليس وعيا عالميا يمثل جميع الحضارات بل هو وعي خاص لصيق بظروف خاصة"، لكن إن تركنا جانبا هذه المسألة، فإنه لا بد من الإقرار الحضارة الأوروبية تبقى حضارة تقدمت بالبشرية وقدمت لها ولا يمكن للحكيم إلا أن يأخذ منها دروسا في أكثر من مستوى منها المستويين المعرفي والتكنولوجي. وهذه الدروس لا يجب أن تثنينا على نقد بعض السياسات المتناقضة من جهة وعن حب الاطلاع على ما يجري في الغرب من اكتشافات وما يحصل في ميادين شتى من جهة أخرى.
    وإن كان الاستشراق قد اقترن في ما مضى بالاستعمار وبغايات أساسها الهيمنة على "الشرق" عبر معرفته
    [7]. فإن الذي يريد أن يفهم الغرب ويحلم بأن يستعيد هيبته في موازين القوى الكونية لا بد له من ممارسة نوع من الاستغراب. أي من جمع معرفة واطلاع يسمح للمستغرب بامتلاك وسائل إفحام الغربي ووسائل التفوّق عليه. الاستغراب هو ربما مرحلة اساسية أما العودة إلى الماضي فحسب فستحبس الآفاق في تاريخ لا يملك كل مفاتيح الانتصار الحضاري في المستقبل.         

    وربما كان على العرب والمسلمين التفكير في طرائق الاضطلاع بمهمة تكوين لوبيات قوية في كل العالم للدفاع عن مصالحهم وعن ثقافتهم الراقية. وعوض هذه المبادرات لتصدير حقيقة وجدانية تهم الافراد بالأساس وتتعارض أحيانا وحريات الاخرين وتتنافى مع مبادئ احترام حق الاختلاف في هذا الصدد. كما يجدر بهم في رايي أن يسعوا الى التألق في مجالات يحذقونها مثل التجارة... فكم نحن في حاجة إلى بعض النجاحات وإلى حضور إيجابي في سياق الحاضر وكم نحن في حاجة إلى إبراز زوايا الضوء في هذا العالم العربي الإسلامي الممتدّ.

    ونذكر ان الثقافة العربية الاسلامية تتكون من مزيج من المعطيات لا يمكن اختزالها في الديني، فهي ثقافة برزت في الطب وفي علوم الفلك والجغرافيا والادب فلماذا نسينا ان معركتنا ليست معركة تسويق وفرض لرؤانا على الآخر بل هي معركة تنمية وتصنيع.

    4-   هذا الجدل يحيلنا بشكل او بآخر إلى العلاقة التي تتعدد حولها الاجتهادات بين العلوم الانسانية ودراسة الظاهرة الدينية في مختلف تمظهراتها خاصة وأن البعض يحاول من خلال الاشارة الى ما يرتبط  بهذه الظاهرة من قداسة وضع قيود على تعاطي العلوم الانسانية مع الظاهرة الدينية فما هو رأي الاستاذة آمنة الجبلاوي؟

    ما سيرد في جوابنا هو محاولة لرصد الأسباب وفهم الظّاهرة ولا علاقة للجواب بمشاعر الناس ومعتقداتهم وعاداتهم الثقافية والاجتماعية. ولا يشك عاقل في أن تحليل المسائل لا يمس من الاحترام المرصود للشأن العقديّ. وما يحاول البعض الإيهام بأن العلوم الإنسانية والمعارف الحديثة لا يمك 


    1 commentaire



    Suivre le flux RSS des articles
    Suivre le flux RSS des commentaires